– «بلوكباستر» وصلت لمرحلة عجزت فيها عن سداد فائدة بـ 42 مليوناً
– درسٌ قاسٍ يذكّر الشركات بأن النجاح لا يورّث والبقاء للأسرع تكيّفاً
– متجر واحد للشركة يبيع القمصان التذكارية بعد أن كانت تفتتح واحداً يومياً
– الشركة طلبت إفلاسها في سبتمبر 2010 بعد تراكم ديونها لـ 900 مليون دولار
في عالم الأعمال، لا شيء يبقى ثابتاً سوى التغيير. قصص الصعود والانهيار تتكرر عبر العقود، لكن قلّما نجد نموذجاً صارخاً مثل قصة شركة «بلوكباستر» (Blockbuster) التي تحوّلت من إمبراطوريةٍ تسيطر على سوق تأجير الأفلام إلى ذكرى تكنولوجية تروى كتحذير لكل مديرٍ يتأخر في قراءة المستقبل.
في 19 أكتوبر 1985، افتُتح أول متجر لـ«بلوكباستر» في مدينة دالاس الأميركية على يد رجل الأعمال ديفيد كوك، بمخزون بلغ نحو 1000 شريط. لم يكن أحد يتوقع أن هذا المشروع المحلي الصغير سيغيّر طريقة الأميركيين في قضاء لياليهم أمام التلفاز.
بعد عامين فقط، دخل المستثمر وين هويزينغا إلى المشهد، فحوّل الفكرة إلى سلسلة تجارية متنامية تفتح متجراً جديداً كل 24 ساعة، لتصبح في نهاية الثمانينات شبكةً ضخمة تمتد إلى أوروبا وأميركا اللاتينية.
وفي عام 1994، اشترت شركة فياكوم (Viacom) «بلوكباستر» في صفقة قدّرتها المصادر بنحو 8 مليارات دولار لدعم استحواذها على «باراماونت بيكتشرز». ومع مطلع الألفية الجديدة، وصلت الشبكة إلى نحو 9.000 متجر حول العالم، يعمل فيها أكثر من 80 ألف موظف، وتجاوزت إيراداتها 5 مليارات دولار سنوياً.
كانت «بلوكباستر» آنذاك مرادفاً للترفيه المنزلي، ورمزاً للنجاح الأميركي في التسعينات.
الإنترنت يطرق الأبواب
العاصفة الرقمية كانت تقترب. في عام 1997، تأسست شركة ناشئة اسمها «نتفليكس»، بدأت بخدمة تأجير الأفلام عبر البريد، ثم عبر الإنترنت. وفي عام 2000، زار مؤسسا نتفليكس مقر بلوكباستر واقترحا بيع شركتهما مقابل 50 مليون دولار.
الرواية تثير الجدل حتى اليوم، فالمؤسسان يؤكدان حصول الاجتماع، بينما ينفي مسؤولو «بلوكباستر» وجود مفاوضات جدّية. مهما تكن الحقيقة الدقيقة، فإن الرسالة الأهم أن «بلوكباستر» لم تدرك وقتها حجم التحوّل القادم.
أخطاء متراكمة
ومع مطلع الألفية، بدأت ملامح التراجع. أطلقت الشركة خدمتها الإلكترونية «Blockbuster Online» في عام 2004، بعد 6 سنوات من نتفليكس. وكانت رسوم التأخير تشكل جزءاً كبيراً من أرباحها (تُقدَّر بمئات الملايين سنوياً)، لكنّ إلغاءها في 2005 لتخفيف غضب العملاء أحدث فجوة في الإيرادات.
حاولت الشركة إطلاق برنامج «Total Access» في 2006 للجمع بين التأجير الإلكتروني والورقي، لكنه كلفها نحو دولارين لكل عملية تبادل، فزادت الخسائر.
لاحقاً، واجهت الشركة ضغطاً من متاجر مثل «وولمارت» و«تارغت» التي بدأت تبيع الأقراص بأسعار زهيدة، ومن أكشاك «ريد بوكس» التي أتاحت استئجار الأفلام آلياً.
بعد انفصالها عن «فياكوم» عام 2004، حملت ديوناً تجاوزت مليار دولار، ما حدّ من قدرتها على الاستثمار في البنية الرقمية.
وأدى تدخل المستثمر المعروف كارل آيكان إلى إقالة الرئيس التنفيذي الداعم للتحوّل الرقمي، واستبداله بآخر ركّز على المتاجر التقليدية.
وفي تلك الأثناء، كانت «نتفليكس» تتحوّل إلى منصة بثّ رقمية عام 2007، وتجمع الملايين من المشتركين في أنحاء العالم، بينما كانت «بلوكباستر» لاتزال تعتمد على الزبون الذي يزور المتجر ويدفع نقداً.
السقوط الحر
في عام 2010، أعلنت «بلوكباستر» خسائر صافية بلغت 78.8 مليون دولار، وإيرادات هبطت إلى 3.2 مليار دولار فقط.
في 23 سبتمبر 2010، تقدّمت بطلب إفلاس بموجب الفصل 11 بعد تراكم ديون وصلت 900 مليون دولار، وعجزها عن سداد فائدة قيمتها 42 مليوناً.
وفي أبريل 2011، اشترتها شركة ديش نتوورك (Dish Network) في مزاد علني مقابل 320 مليون دولار، على أمل إحياء العلامة. لكن الآمال لم تتحقق، فأُغلق آخر متجر مملوك للشركة في يناير 2014، وآخر فرع امتياز دولي بـ2020.
اليوم، يبقى متجر واحد فقط في مدينة بيند بولاية أوريغون، يعمل كجذبٍ سياحي يبيع القمصان التذكارية أكثر مما يؤجر الأفلام.
التحوّل الرقمي لا يرحم المتباطئين
قصة «بلوكباستر» ليست مجرد حكاية فشل، بل تحذيرٌ صريح. ففي عالم تتسارع فيه التكنولوجيا بوتيرة مذهلة، تتحول الراحة والسرعة إلى معيار البقاء. التغيير في سلوك المستهلكين، من زيارة المتجر إلى المشاهدة الفورية، قضى على نموذجٍ لم يُعدّل نفسه في الوقت المناسب.
تقول تقارير الأعمال إن «بلوكباستر» لم تستخدم حتى بيانات عملائها لتحليل أنماط المشاهدة والتفضيلات، ما جعلها تتخلف عن إدراك حجم الطلب على الراحة الرقمية، وبينما كانت تصرف الملايين على الحملات الترويجية، كانت «نتفليكس» تستثمر المبالغ نفسها في الخوارزميات والبرمجيات التي جعلت تجربة المستخدم أكثر سلاسة.
وهذا هو الدرس الأكبر في اقتصاد اليوم، في عصر السرعة، البقاء ليس للأقوى، بل للأسرع تكيفاً.
مَنْ لا يتحرك بسرعة يُمحى من الذاكرة
في 2025، بينما تواجه شركة «إيكوستار»، المالكة لشركة «ديش نتوورك»، صعوبات مالية محتملة تتعلّق بتخلف عن سداد فوائد تتجاوز 500 مليون دولار، يبدو المشهد تكراراً مصغّراً للماضي: التكنولوجيا تتقدّم، والسوق يتبدل، ومَنْ لا يتحرك بسرعة يُمحى من الذاكرة.
لقد انتهت «بلوكباستر» ليس لأنها كانت ضعيفة، بل لأنها تجاهلت التحوّل في الوقت الذي كان يجب أن تقوده.
بعد مرور 40 عاماً على تأسيسها، تبقى «بلوكباستر» درساً حيّاً لكل الشركات التي تغفل عن التطور.
الدروس المستخلصة من سقوط «بلوكباستر»:
1 – النجاح لا يورّث: العلامة التجارية القوية لا تحميك إن تجاهلت الاتجاهات الجديدة.
2 – التقنية تغيّر القواعد: ما كان يدرّ أرباحاً بالأمس قد يصبح عبئاً اليوم.
3 – المرونة المالية ضرورة: الديون الثقيلة تعيق التحوّل السريع.
4 – الثقافة أهم من الأرباح: بيئة العمل التي ترفض التغيير تقتل الابتكار.
5 – البيانات هي البوصلة: مَنْ يفهم سلوك عملائه أولاً يفوز بالسوق.


