بينما تغرق العواصم العالمية في ضجيج التكنولوجيا وترانيم «المدن الذكية»، تنزف غزة ذاكرةً وتاريخاً وإنساناً. هنا، حيث تتحول الشوارع إلى مقابر جماعية، والبيوت إلى شواهد قبور، والذاكرة إلى أطلال، يصبح «البقاء» بحد ذاته معجزةً يومية تواجه آلة إبادة لا تعرف الرحمة.
شهداء يروون الأرض قصة الصمود
لم تكن مجرد أرقام تتصدر نشرات الأخبار، بل كانت قصصا حُفرت بأنهار الدم على أرض غزة. خمسة شهداء سقطوا الجمعة، ليضيفوا صفحات جديدة إلى ملحمة المقاومة والصمود.
حمدي البريم: لم يعد ذلك الشاب الذي كان يملأ بيت العائلة ضحكات وأحلاماً، تحول مع أول قذيفة إلى جثمان يلفظ أنفاسه الأخيرة بين أنقاض منزله في حي مصبح ببلدة عبسان الكبيرة.
محمد قديح: رحل متأثراً بجروحه التي لم تلتئم، بعد أن طالته نيران الاحتلال وهو داخل خيمة نازحين بمواصي خانيونس، ليثبت أن لا مكان آمنا في غزة.
ثلاثة شهداء آخرون: سقطوا برصاص الغزاة في شارع الجلاء وحي الشجاعية، ليؤكدوا أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن سوى حبر على ورق أمام آلة القتل الصهيونية.
سيمفونية الدمار: حين تتحول المدن إلى ركام
لم تكن عمليات النسف مجرد عمليات عسكرية، بل كانت طقساً يومياً لمحو الذاكرة الجمعية. من شرق غزة إلى شرق خانيونس، ومن مخيم البريج إلى أحياء الشجاعية والتفاح، تنفجر المباني وكأنها قلوب تئن تحت وطأة القصف.
أرقام تختزل مأساة إنسانية:
– 190115 مبنى مدمراً.
– 102067 مبنى دُمّر بالكامل.
– 330500 وحدة سكنية أصبحت أطلالاً.
– 71 مستشفى و293 مدرسة و246 مسجداً طالها الدمار.
غزة التاريخ تواجه غزة الأنقاض
في اليوم العالمي للمدن، غزة مدينة عمرها خمسة آلاف عام، شهدت حضارات متعاقبة، تحتضن المسجد العمري وكنيسة القديس بروفيريوس وسوق القيصارية وقلعة برقوق، تتحول الآن إلى صفحة محروقة في سفر التاريخ.
المفارقة الصارخة: عالم يبني مدناً ذكية وغزة تبحث عن قطرة ماء
بينما يناقش العالم في اليوم العالمي للمدن كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة الحياة، يبحث أهالي غزة عن:
3 – 5 لترات ماء يومياً للفرد (بينما الحد الأدنى العالمي 15 لتراً).
خيمة تَقيهم برد الشتاء.
لقمة خبز تسد جوع أطفالهم.
أكثر من مليوني نازح يعيشون في خيام مكتظة، تختفي يوماً بعد يوم تحت نيران القصف أو عوامل الطقس القاسية.
فضيحة التعذيب: الوجه الحقيقي لدولة تدعي «الديمقراطية» تعذب وتغتصب وتقتل أسرى
كشفت فضيحة تسريب شريط التعذيب في معتقل «سديه تيمان» عن جراح غائرة في ضمير الإنسانية:
معتقل فلسطيني يُجر على الأرض.
صعق بالكهرباء بلا رحمة.
اغتصاب وطعنة في المؤخرة تسبب ضرراً بالغاً.
محاولات نظامية لإخفاء الجريمة.
استقالة مفتعلة: محاولة يائسة لغسل الأيدي الملطخة بالدماء، حيث أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إقالة المدعية العسكرية ييفعات تومر يروشالمي، في مسرحية هزيلة للمحاسبة.
غزة… لن تنكسر
رغم كل هذا الدمار، ورغم كل هذه الجرائم، تبقى غزة تروي للعالم درساً في الصمود. فمن تحت الأنقاض، تخرج الأيادي لتُشيد من جديد، ومن بين الجثامين، تولد الإرادة لمواصلة المسيرة.
غزة لم تعد مجرد مدينة، بل أصبحت ضميراً حياً للإنسانية، وشاهداً على صمود شعب يرفض الموت، ويختزل في كل شهيد قصة أمة، وفي كل أنقاض وعداً بالعودة والتحرير.


