… والعنصرية أشد من الفتنة


عام 2010 أجريتُ عملية قلب مفتوح في قلب عاصمة النور والإنسانية باريس.

المستشفى اسمه الأمريكي.

الطبيب الذي أجرى لي العملية لبناني معه أطباء مساعدون عرب وفرنسيون.

البروفيسور المشرف على العملية والذي تحلّق حوله الأطباء لدراسة الحالة وكانوا يقرأون من كتابه كالتلاميذ… لبناني.

طاقم التمريض فيه من المغرب والجزائر ومصر ودول أفريقية وفيه فرنسيون.

في فترة النقاهة نصحت بأن أُمارس المشي يومياً وتعرّفتُ على بائعين فرنسيين قرب المستشفى تناولنا بعض الأحاديث اللطيفة والعابرة.

لم أسمع من أي طبيب أو ممرض (ممرضة) فرنسي طيلة فترة إقامتي أي شكوى أو تذمر أو كلمة نافرة عن زملائهم العرب أو الأفارقة بل سمعتُ إشادات وكلاماً عن حجم الاستفادة الذي حصلوا عليه من خلال الخبرة والتعلم.

لم أسمع من أيّ من جيران المستشفى البائعين وأصحاب المقاهي أي كلمة عن كون المستشفى «أمريكي» وليس فرنسياً وفيه أطباء من مختلف الجنسيات، بل سمعتُ أسئلةً عن جودة الطبابة ونوعية الخدمات الصحية التي تُقدّم.

هل هذه المقدمة الطويلة التي بدأتُ فيها وصف باريس بـ«عاصمة النور» جزءاً من سيرة ذاتية؟ على الإطلاق… هي مدخل للمقارنة مع «سِير» محلية تتعلّق بمواقف حول الوضع الطبي خصوصاً والمجتمع عموماً.

كم أشعر بالسوء حين أقرأ أحياناً تعليقات عنصرية في الفضاء الإعلامي تتعلّق بالجسم الطبي والاستشفائي في الكويت. شخص يدخل عيادة فيقول من استقبلني من جالية معينة ومن فحصني من جالية أخرى ومن حوّلني عليه من جالية ثالثة. لم يقل لنا إذا كان الفحص الأولي ناجحاً والإحالة في موقعها الصحيح. لم يفدنا كمتلقين مثلاً عن الحالة والدواء والعلاج.

وكم أشعر بالغضب حين اقرأ خبر اعتداء على طبيب وافد من قِبل أشخاص وهم في الفيديو يتلفّظون بكلمات عنصرية ضده وضد بلده.

وكم أندهش من كمّ الاقتراحات التي تُطالب بالتضييق على وافدين من جنسيات معيّنة في موضوع الطبابة والعلاج.

وكم أستغرب أن مَن يتهجّم على وجود أطباء وافدين ويدعو إلى تقليص أعدادهم لا ينبس ببنت شفة حول القطاع التمريضي، ولم أسمع من هؤلاء العنصريين تحديداً دعوات للاستغناء عن الممرضات والممرضين الوافدين وإحلال منظومة تمريض محلية مكانهم… لماذا؟ هل هناك إجابة؟ أم أن الإجابة أصعب أيضاً من السؤال؟

أتفهّم طبعاً وجوب اتخاذ إجراءات لرفع الضغط عن المنظومة الصحية في البلاد، لكن هذا الموضوع لا يتحمّل مسؤوليته الوافد وإنما الإدارات المتتابعة لهذا القطاع التي تركت منشآت بكاملها من دون تطوير أو تجديد تحسباً ليوم سيزيد فيه حكماً عدد المراجعين وطالبي العلاج.

تطوير المنظومة يُحَل بخطط عملية أهلُ القطاع الصحي أدرى بها، من تفعيل المنشآت الموجودة وتوسيعها والاستفادة من الكفاءات المحلية والعربية والدولية إلى اعتماد المكننة في كل شيء… إنما موضوعنا يتجاوز «الصحة» إلى صحة المجتمع التي نرى أنها تتراجع أمام حجم الكلام العنصري المتزايد.

الموضوع الصحي نموذج مصغّر عن وجوب محاربة النفس العنصري المتفشي تدريجياً. مشاكل الكويت موجودة في كل القطاعات ولا ينكرها إلّا كل متجاهل، إنما مقاربة هذه المشاكل لا تكون بالتصويب على الآخرين بل بالتركيز على اعتماد معايير علمية لحلها.

وبما أننا دخلنا من موضوع الطب، فبعض الأصوات العنصرية تتحور وتتكور وتنتقل من مكان إلى آخر. لم تقتصر على وافد هنا أو هناك… تعدتها أحياناً إلى الشركاء في المواطنة والأرض والتاريخ، بل صار البعض يعتمد هذه اللغة أحياناً للإساءة إلى مجتمعات شقيقة قريبة وبعيدة، ولا نعلم غداً إلى أين ستصل.

إذا كانت الفتنة أشد من القتل فالعنصرية أشد من الفتنة. الفتنة يمكن أن تكون نتائجها مهولة إنما الطابع الظرفي لها يسمح إما باحتوائها أو احتواء نتائجها رغم كل الخسائر، أما العنصرية فهي تزرع بذور شر تدريجية في المجتمع قد تتحول إلى منظومة مرعبة مستقبلاً تنتج الفتن… ودمارها.

نحن في عهد ينشد التنمية ويكرّس كل إمكانات الدولة من أجلها. المطلوب مساعدته في مسيرة الإصلاح باقتراحات علمية بنّاءة لا هدّامة. الاستقرار المجتمعي أساسي على قاعدة أن الكويت لجميع أبنائها يتساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، وعلى قاعدة أن الكويت رسالتها إنسانية، وعلى قاعدة الاستفادة المُثلى من كل المقدرات الموجودة لبناء حاضر اقتصادي قوي ومستقبل أقوى… لا تتساوى التنمية مع العنصرية ولن تتقدم بوجود مثل هذه الكوابح.

عود على بدء، كنتُ «وافداً» في مستشفى أمريكي في فرنسا، وخرجتُ من عملية القلب المفتوح إلى العقل المفتوح الذي كشفَ لي سر ارتباط بعض العواصم… بالنور.





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *