وليد البشارة: وسط نيران قوات الغزو… قُدنا معركة إنقاذ الأرواح


– أسعفت ضابطين فقمنا بخياطة الجروح بإجراءات بدائية بلا بنج ولا أدوات

– زميلنا طبيب استشهد بقذيفة جانب العيادة لم نستطع إنقاذه بعد قطع شريانه أسفل القلب

– كسرنا النافذة وشققنا بزجاجها بطن أحد المصابين في محاولة لإنقاذه

يقدم اللواء متقاعد الدكتور وليد البشارة، شهادة أخرى عن أحداث الثاني من أغسطس، في رواية طبية، وملحمة إنسانية وشجاعة نادرة، تُجسّد كيف قاتل الأطباء على جبهة أخرى، هي جبهة الحياة.

يقول البشارة: في تلك الساعات العصيبة من فجر الثاني من أغسطس، كنت داخل عيادة الحرس الوطني، أشهد بعينيّ مشاهد لن تُنسى، وأخوض إلى جانب زملائي الأطباء معركة إنقاذ الأرواح، دون إمكانات، ودون وقت للتفكير.

بدأ الجرحى من أبطال الحرس الوطني الباسل يتدفّقون على العيادة. في البداية كانت الإصابات بسيطة يمكن إسعافها، ولكن مع تصاعد القصف، بدأت تصلنا حالات نزف عميقة وإصابات بليغة. تحولت العيادة إلى بركة من الدماء، وكأننا نعيش داخل فيلم من مشاهد الفزع والمأساة، لكننا لم نملك إلا المواجهة. وكانت العيادة موقتة، من دون طبيب جراح، ومع قصف العدو بدأ الشهداء يسقطون. ومع غياب الأدوات، استخدم الأطباء كل ما توافر من وسائل بدائية لإنقاذ المصابين. وأمرت أحد أطباء وزارة الصحة بمغادرة الموقع لأنه لن يتحمل هول ما سيشهده من إصابات ودماء، وبقينا ثلاثة ضباط أطباء نكافح بكل ما نملك.

ملحمة إنقاذ

يروي البشارة أحد المشاهد التي لا تزال محفورة في ذاكرته: سقطت قذيفة بجوار الملازم أول خليل العتيبي (أبو ضاري) وجاسم الحساوي. أصيب أبو ضاري في رقبته إصابة خطيرة تغلغلت حتى حبله الصوتي. كان وجهه مغطى بالدم فلم أعرفه. أما جاسم، فأُصيب إصابة عميقة في الورك، قطعت شريانه الرئيسي، وتحول موضع الإصابة إلى نافورة دم.

حين اقتربت من جاسم وسألته عما حدث، أجابه بصوت متهدج: «راح الركب… الحق بخليل قبل أن يموت». وأشار بيده إلى خليل، الذي لا يكاد يظهر وجهه من بين الدماء، ويحاول المناداة من دون صوت.

وجدت نفسي أمام معضلة: كيف أُسعفهما معاً؟ الشريان المقطوع ينزف، ولا خيوط جراحية، ولا بنج. فقط الشاش. بدأت أسحب خيوط الشاش وألفها، وأربط بها الشريان، وضغطت بيدي حتى امتلأت الأرض دماً. ثم تحركت إلى خليل وكررت نفس الإسعافات البدائية… نجونا بهما، وتم نقلهما فوراً إلى مستشفى العدان، حيث أُجريت لهما عمليات جراحية عاجلة.

استشهاد جمال اللنقاوي

يستذكر البشارة استشهاد زميلهم جمال اللنقاوي: انفجرت فيه قذيفة وهو بجوار العيادة. الدكتور يعقوب هرع لإنقاذه، لكنني صرخت: «يعقوب، انبطح!»، لتسقط قذيفة أخرى. نجا يعقوب، لكنه خرج يجرّ اللنقاوي فاقد البصر، بينما أسعفت يعقوب الذي أصيب بعمى موقت نتيجة الانفجار. وتسلم الدكتور أحمد العريبد الشهيد جمال، وصرخ بي: «إلحق، وليد!»، فذهبت إليه، وكان يبكي، يحاول رفع يده لكنه لا يستطيع.

كان اللنقاوي قد نزف من أسفل القلب، وقطع شريانه الرئيسي، والدماء تتفجر من صدره. قال العريبد: «هذه شهادة»، واحتضنه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

ويحكي البشارة عن موقف آخر: جاءني جندي مصاب، قال لي: «أنا متطوع». سألته عن إصابته فقال: «بطني». فحصته، ثم قلت للدكتور يعقوب: هذا بحاجة لفتح بطن فوراً. فقد استنشق ضغطاً انفجارياً فرّغ أمعاءه. لم يكن لدينا غرفة عمليات، ففتحناه في غرفة خالية، كانت بمثابة غرفة انتظار.

أدوات من القمامة

وفي مشهد يمزج الضحك بالبكاء، يروي البشارة: صرخت على الدكتور يعقوب وقلت له: أين غطاء علبة طعامكم بالأمس؟! نحتاجه لإسعاف جرحى. لم نجدها. قلت له: اكسر زجاج النافذة. صُدم وقال: «حرام عليك!». لكنه فعل. أخذت قطعة صغيرة وجرّبت بها شق الجلد لكنها لم تنجح، فطلبت قطعة أكبر. وبينما نحن نحاول، لاحظت أن الجندي المصاب بدأ يفقد وعيه، فقلت له: لا تدخل في الشهادة، فقال لي: «شهادتي خلاص…».

وفي ساعات المساء، صدر أمر من العقيد الدواج إلى القائد خالد بودي بإخلاء العيادة، نظراً لتزايد الإصابات. رائحة الحريق بدأت تنتشر، والدخان تسلل إلى العيادة. فطلبت من يعقوب إحضار سيارات الإسعاف، رغم القصف المتواصل. جهزنا ثلاث سيارات، وحمّلناها بالمصابين. أُرسلت أولاً إلى مستشفى مبارك، ثم إلى مستشفى العدان، حيث كنت قد تواصلت معهم مسبقاً.

ركعة أمام الموت

يقول بشارة: بعد الإخلاء، أديت صلاة المغرب والعشاء مع يعقوب، وسط الدماء والدمار. وأسندنا ظهورنا إلى الحائط بعد الصلاة، وسألني يعقوب: «تعتقد نطلع منها أحياء؟». لم أجب… لكننا كنا نعلم أن لكل واحد منا دوره، ورسالة يؤديها، حتى الرمق الأخير.





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *