تَوارَتْ جولةُ المفاوضات الأحدث بين بعثة صندوق النقد الدولي والفريق الاقتصادي اللبناني، والتي انعقدتْ في بيروت على مدار الأسبوع الجاري، خلف ضجيج اليوميات الداخلية التي واكبتْ حَدَثَ «صخرة الروشة»، وما أفرزه من تداعياتٍ ميدانية وسياسية مستمرّة، يُخشى ان تفضي الى تزخيم الخلافات العميقة القائمة أساساً في شأن معضلة «حصرية» السلاح.
وما زاد في تبرير تَراجُع الاهتمام والمتابعة، بطءُ التقدم المزدوج بين الطرفين في اتجاه هدف تجديد عَقْدِ اتفاقٍ أولي على مستوى فريقيْ العمل، يَرِثُ مثيلَه «المُلْغى» عملياً والذي كانت عقدتْه الحكومة السابقة في ربيع 2022 ثم تنصّلتْ لاحقاً من تنفيذ موجباته رغم إرفاقه بتعهداتٍ «رئاسية» حينها على أعلى المستويات، بالتزام حزمةِ شروطٍ تنفيذية وتشريعية تؤهّل لبنان لابرامِ اتفاقٍ نهائي ومعزَّز بضخ تسهيلات ائتمانية مباشرة من الصندوق تتعدى 3 مليارات دولار، وتَفتح الطريق امام دفق التمويل الخارجي.
ويبدو، بحسب مصادر مالية معنيّة، تواصلتْ معها «الراي»، ان بعثة الصندوق لم تتزحزح كثيراً عن حزمة الشروط المشدَّدة التي تخص لبنان، والمرتكزة خصوصاً على بلوغ محطةِ استدامة الدين العام عبر مسار تجنيب «الدولة» والموازنة العامة بالحد الأقصى الممكن، أي أعباء مالية في ردْم فجوة «الخسائر» المحقَّقة في ميزانيات البنك المركزي والمصارف، والتي شكلتْ نواةَ تَفَجُّرِ الأزمة النقدية والمالية التي تشارف على بدء عامها السابع على التوالي.
وفي الأساس، وباستثناء إظهار القليل من التفهُّم الشكلي للخصوصيات اللبنانية، لم تشهد منهجيةُ فريق الصندوق أيَّ تغييرٍ محسوس في تحديد ماهية «الفجوة» البالغة نحو 73 مليار دولار، لجهة تصنيفها كخسائر محقَّقة في ميزانيات القطاع المالي، والتوجيه بتحميل أوزارها إلى القطاع المالي والمودعين. في حين، تسود القناعةُ العامة داخلياً بتعريفها كديونٍ متوجّبةِ الأداء رَبْطاً بمسؤوليةِ الدولة عن صرف الجزء الأكبر من هذه المبالغ عبر شهيتها التي كانت مفتوحة على الإنفاق العام من دون مقابلته بموارد موازية، ولجوئها إلى التمويل المفتوح لعجوزاتِ الموازنة العامة وقطاع الكهرباء خصوصاً، وهو ما أظْهَرَتْه إحصاءاتٌ موثّقة وحصيلةُ التدقيق الجنائي في بيانات الأصول والخصوم لميزانية البنك المركزي.
ومن غير المتوقَّع، وفق مصادر مالية ومصرفية، ان تتبدّل مشهدية «التباعد» الواقعي في المواقف، خلال جولة المفاوضات التالية التي ستنعقد في واشنطن منتصف الشهر المقبل على هامش الاجتماعات الخريفية الدورية لصندوق النقد الدولي، بمشاركة وزيري المال ياسين جابر، والاقتصاد عامر البساط، وحاكم البنك المركزي كريم سعيد، حيث تخلو حقيبةُ الفريق اللبناني من الاستجابة لشرط إنجاز تشريع قانون «الفجوة»، والمعوَّل عليه لتحديد الحجم المحدَّث للخسائر وتوزيعاتِ أثقالها على ثلاثي الدولة والبنك المركزي والجهاز المصرفي، وسط استمرار معاناة المودعين الذين يتكبّدون الكلفة الأكبر ويتحضّرون للمزيد.
ويقرّ وزير المال بحقيقةِ عدم الوصول بعد إلى مرحلة عقد اتفاق نهائي على برنامج مع الصندوق، رغم تحقيق بعض التقدم و«ما زلنا في حاجة إلى بعض الوقت للوصول إلى ذلك. فقانون الفجوة المالية لم يَنْتَهِ العملُ به بعد، ولدى الصندوق بعض الملاحظات على قانون إعادة تنظيم قطاع المصارف».
وفي موازاة ذلك، برز الخلافُ بين الدولة ومصرف لبنان حول مبلغ 16.5 مليار دولار الوارد في ميزانية البنك كدينٍ قائمٍ على القطاع العام كحصيلةِ تمويلاتٍ محرَّرة بالدولار لقاء إيداعاتٍ بالليرة، فيما تتذرّع وزارة المال بأن الدولة لا تستطيع أن تستدين إلا بقانون صادر عن المجلس النيابي. وفي المقابل، فإن الدولةَ ووزارة المال لا تريدان أن تقصّرا في مساعدة البنك المركزي في حلّ موضوع المودعين، بحسب الوزير جابر، ولكن هناك قدرة للدولة على تَحَمُّل الدين، ويدور نقاشٌ حول هذا الموضوع.
وعلى الضفة المقابلة، أقرّت بعثة الصندوق بأن «الاقتصاد اللبناني يُظْهِرُ قدرةً على الصمود بالرغم من التداعيات الهائلة للصراع الإقليمي، كما شهد مؤخراً انتعاشة اقتصادية جزئية بفضل قوة سياحة المغتربين. ولا تزال السلطات على الطريق الصحيح، حيث واصلت تشديدَ سياساتها النقدية والمالية، ونجحت في مراكمة بعض الاحتياطات الدولية الإضافية وتحقيق فائضٍ مالي بسيط. كذلك أحرزت تقدماً نحو إنشاء هيئات تنظيمية في قطاعي الكهرباء والاتصالات، وهو من الأهداف التي طال انتظارها».
غير أن استعادة النمو القوي والمستدام، بحسب الخلاصة التي عمّمها رئيس البعثة راميريس ريغو، تتطلب تنفيذَ إصلاحاتٍ طَموحة وشاملةٍ للتصدي لمَواطن الضعف الهيكلية التي أعاقت إمكانات لبنان لسنوات، وهي إصلاحاتٌ لازمة أيضاً للحصول على الدعم الدولي اللازم لمساعدة البلاد في إعادة بناء الاقتصاد وإعمار المناطق التي دمّرتْها الحرب. وعلى هذه الخلفية، انصبّ تركيز البعثة على جهود السلطات لإعادة تأهيل القطاع المصرفي والموازنة الحكومية لسنة 2026.
وفي تحديث للشروط، وجدت البعثة ان «قانون تسوية المصارف» الذي اعتُمد مؤخراً يعكس الجهودَ الحثيثةَ من كافة الأطراف المعنية، و«إن كان يحتاج إلى المزيد من التنقيح. حيث اقترح فريق الصندوق تعديلات لضمان الاتساق الكامل مع المعايير الدولية وفعالية عمليات إعادة هيكلة المصارف». كذلك «على السلطات مواصلة العمل على تطوير استراتيجية قيد الخسائر وتوزيعها، واستعادة قوة القطاع المصرفي اتساقاً مع المعايير الدولية واعتبارات حماية صغار المودعين واستدامة القدرة على تحمل الدين العام».
ولم يُخْفِ فريقُ الصندوق «خيبةً» مضمَرة من عدم تبنّي مشروع قانون موازنة 2026، نهجاً أكثر طموحاً، مع التنويه بتطلع السلطات إلى اتخاذ تدابير ملائمة لتوسيع الوعاء الضريبي وتحسين الامتثال. اذ «ينبغي النظر أيضاً في إصلاح السياسة الضريبية لإتاحة الحَيّز المالي اللازم للنفقات ذات الأولوية على إعادة الإعمار والحماية الاجتماعية».
وعلى جانب الإنفاق، اعتبر الفريق أنه ينبغي قيد جميع البنود المتوقعة بشفافية، بما في ذلك الممولة من الخارج «وبوجه عام، ينبغي أن تتسق قرارات الإنفاق مع التمويل المتاح». كذلك دعت البعثة إلى «تعزيز الجهود المبذولة لتطبيق إطارِ ماليةٍ عامةٍ طموح متوسط الأجَل، وهو شرط ضروري لوضع استراتيجية ذات صدقية لاستعادة الاستدامة المالية والقدرة على تَحَمُّل الدين».