الإقطاع الجديد… من القلاع إلى المنصات


منذ قرونٍ طويلة، كان الإنسان الأوروبي يعيش خلف أسوار القلاع، يمتهن الفلاحة، ويخضع لسلطة الإقطاعي الذي استملك أرضه، بينما يكدح هو من أجل كسرة خبز وشيء من الحماية. ومع ظهور الثورات الكبرى، وعلى رأسها الثورة الفرنسية، انهارت جدران الإقطاع وسقطت قلاعه ودُقّ آخر مسمار في نعشه، وارتفعت راية المساواة أمام القانون، لتولد الرأسمالية وتفتح أبواب الأمل لظهور طبقة جديدة.

ولكن وبعد ثلاثة قرون من الحرية الاقتصادية الموعودة، ها نحن اليوم نُقاد من جديد إلى نوع آخر من العبودية، عبودية لا تُرى بالعين، لكنها تُحكم قبضتها على حياتنا بأدوات ذكية وشاشات برّاقة. لقد عادت روح الاقطاع بثوب رقمي، لتخلق من المنصات الرقمية قلاعاً جديدة، وجعلت من أصحابها أو المسيطرين عليها السادة الجدد. فلم تعد الأرض هي جوهر القوة، بل التطبيق الإلكتروني. لم يعد السلاح هو السيف، بل الخوارزمية. من يملك المنصة يملك السوق، فيقرّر من يبيع، وماذا يبيع، ومتى يبيع، ولمن يبيع. إنهم الإقطاعيون الجدد الذين لا يحتاجون لجنود ولا خيول، بل يكفيهم زرٌّ واحد ليُقصي به مبادراً، أو خوارزمية صغيرة لتتحكم في أرزاق البشر.

في الكويت، استبشر المستهلكون بخبر دخول لاعبين جدد إلى ساحة توصيل الطلبات، لا سيما في ضوء ارتفاع أسعار التوصيل وضعف المنافسة. غير أن الفرح أخفى حقيقة مُرّة: فالمنافسة لم تعد بين مطاعم ومطاعم أخرى، بل بين المنصات ذاتها، تلك التي تتحكم في السوق، كالإقطاعي الذي يتحكم بأهل القرية عن بكرة أبيها.

الأخطر من ذلك، أن بعض هذه القلاع الرقمية لم تعد تكتفي بالأموال، بل امتدت أذرعها إلى عقولنا وثقافتنا، تماماً كما كانت الكنيسة في أوروبا إبان عصر الاقطاع تتحكم في المعرفة والوعي. فالمنصة اليوم لا تقرّر فقط أسعار السوق، بل تفرض أيضاً ما نراه ونسمعه ونفكر فيه، وتصنع رواية قد تتجاوز حدود الاقتصاد، لتلامس مناطق أخرى أكثر حساسية، فالخطر ليس بعيداً عنا إذا استسلمنا لهذه التبعية، فلن يبقى لدينا طبقة وسطى قوية تحمي توازن المجتمع، ولن يبقى لدينا شباب يملكون مشاريع صغيرة تُغذّي اقتصاد الوطن. وسنصحو ذات يوم لنجد أنفسنا أسرى قلاع رقمية أكثر صلابة من قلاع الحجر، نعيش خلف شاشاتها، ونعمل وفق شروطها، ونفكر ضمن أسوارها.

ومن هنا، فيجب على الحكومات أن تتحرّك قبل فوات الأوان: أن تزرع وعياً عاماً بخطر التبعية، أن تعزّز الحرية والاستقلالية، أن تبني منصات وطنية تحفظ كرامة السوق وتوطّن رأس المال، أن تسنّ تشريعات تحمي بيانات الناس وأحلامهم، وأن تمدّ يدها لدعم المشاريع الصغيرة والأهداف الكبيرة، فبهذا نبني سداً منيعاً أمام طوفان الإقطاع الجديد.

لعلنا اليوم غير محاطين بالأسوار الحجرية القديمة، لكننا محاطون بما هو أخطر: أسوار رقمية تحاصرنا دون أن نشعر. وإذا لم نكسرها نحن، فسنبقى عبيداً طوعيين في قلاع حديثة، قلاع تضيّق علينا ونحن نحملها في جيوبنا. والله من وراء القصد.





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *