تدخل المالية العامة في البلاد مرحلة ضغط جادة بعد تسجيل اسعار برميل النفط الكويتي مستويات اقل من السعر المتحفظ (الأساس) الذي بنيت عليه افتراضات ميزانية الدولة.
فحسب الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2025 -2026 فإن سعر التعادل الذي تتساوى فيه الايرادات مع المصروفات هو 90.5 دولارا للبرميل في حين يبلغ سعر الأساس البالغ 68 دولارا للبرميل، والذي يعني تسجيل عجز مالي 6.3 مليارات دينار، بينما هبط سعر البرميل خلال الأسبوع الأخير الى اقل من 62 دولارا للبرميل، وسط توقعات بمستقبل صعب في اسواق الطاقة ولو على المدى القصير.
وتتعدد اسباب تراجع اسعار النفط عالميا وبالتبعية برميل النفط الكويتي ما بين عوامل اقتصادية كسياسات مجموعة اوبك بلس بزيادة الإنتاج النفطي بوتيرة متسارعة الى جانب الحرب التجارية «الترامبية» على العديد من دول العالم لا سيما الصين، مع ما يرافقها من توقعات سلبية للطلب العالمي على الطاقة، ناهيك عن الضغوط الخاصة بأسعار الفائدة العالمية وعوامل اخرى جيوسياسية كتراجع علاوة المخاطر بعد توقف العدوان على غزة، واحتمالية التوصل الى اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا، وفي هذه الأخيرة يرى بنك سيتي غروب أن «أي تخفيف» في حدة الحرب قد يؤدي إلى هبوط أسعار النفط نحو مستوى 50 دولارا للبرميل، وهو بالمناسبة السعر الذي يفضله الرئيس ترامب، بينما توقع محللو «غولدمان ساكس» انخفاض أسعار برنت إلى 52 دولاراً للبرميل بحلول الربع الأخير من العام المقبل.
إصلاح الاقتصاد الكويتي أسهل من تجارب إصلاح وتحول ونمو عالمية واجهت تحديات معقدة
سلبية ومسمومة
ومع تأكيد ان قدرة الكويت على التحكم في أسعار النفط ضئيلة فإنه من المهم تحديد آليات التعامل مع واقع تراجع هذه الأسعار بعيدا عن «الأفكار المسمومة» التي تلقى رواجا في العادة مع تصاعد مستويات العجز المالي وضعف ادوات الإدارة العامة الاقتصادية فتحمّل المجتمع مسؤولية الإخفاق الاقتصادي الحكومي وتتصاعد مقترحات الجباية المالية كخفض الرواتب او زيادة اسعار الرسوم والخدمات او املاك الدولة او فرض الضرائب، فضلاً عن وضع برامج خصخصة دون ادوات تنظيم او اشراف محترفة من الدولة، فلهذه المقترحات نتائج سلبية ومسمومة اقتصاديا واجتماعيا، حتى وإن حققت وفرا ماليا، اذ ان الأموال المتأتية من الجباية المالية ستنفق مجددا على مصروفات الوظائف الحكومية التي ناهزت اعلى مستوياتها التاريخية عند 84 في المئة للعمالة الوطنية في القطاع الحكومي او تؤثر سلبا على اصحاب الأعمال والمبادرين الذين يعانون اصلا من انخفاضات لافتة على مستوى الإنفاق الاستهلاكي الذي شهد تحولا سلبيا في النصف الأول من العام الجاري بتراجع 5.4 في المئة، ناهيك عن الربكة التي تخلقها الجباية المالية على المراكز المستقرة من حيث علاقة العملاء المقترضين مع البنوك وما يترتب عليها من تبعات مالية واجتماعية وقانونية.
بل إنه حتى مسألة خفض الدعوم، إذا لم تؤخذ من زاوية اجتماعية – اقتصادية تضمن وصولها إلى مستحقيها في ظل اجراءات تقيمات متواصلة لمؤشرات التضخم والآثار المترتبة على اصحاب الأعمال خصوصا صغار المبادرين والمسجلين وظيفيا كقطاع خاص على الباب الخامس من انظمة التأمينات الاجتماعية فإن الأثر السلبي سيتعدى أثر الوفر المالي.
أموال الدين العام و«احتياطي الأجيال» يجب ألا يستهلكا في المنطقة الرمادية من الاقتصاد
تنمية وتنويع
وفي مقابل الترويج ل «الأفكار المسمومة» تبرز اهمية التفكير الاستراتيجي الحصيف المتعلق بكيفية تنمية وتنويع الناتج المحلي الإجمالي اي زيادة حجم الاقتصاد الكويتي والعمل على تعدد مكوناته التي تعتمد حاليا على النفط بشكل شبه كامل اما مباشرة او غير مباشرة، وهو ما يتطلب خلق فرص استثمارية وتحريراً لأملاك الدولة وتسهيلاً للإجراءات الحكومية وجذباً للاستثمارات الاجنبية والخبرات والتكنولوجيا وعقد الشراكات الاقليمية والدولية وطرح المشاريع للقطاع الخاص المنتج بما يخلق فرص عمل للعمالة الوطنية في القطاع الخاص ويرفد خزينة الدولة بعوائد مالية ضريبية غير نفطية ناتجة عن النشاط الاقتصادي، لا من الجباية المالية، وهنا كلما زاد حجم الاقتصاد ارتفعت ايرادات الدولة وتخلصت من تنامي ضغوط مصروفات الرواتب، وباتت أكثر مرونة في التعامل مع تقلبات أسواق النفط وأسعاره.
من المفيد هنا الإشارة الى ان حجم الناتج المحلي الإجمالي للكويت عام 2000 كان يشكل 18 في المئة من حجم اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في حين انه يشكل حاليا 7.7 في المئة فقط منها… وفي هذا التراجع انعكست اختلالات عميقة على تدفق الإيرادات العامة وانحرافات سوق العمل وحتى جودة الخدمات.
خلال ربع قرن تراجع الناتج المحلي الإجمالي للكويت من 18% من حجم اقتصادات دول «التعاون» إلى 7.7%
المنطقة الرمادية
وكذلك يجب ألا يقع مستقبل الاقتصاد الكويتي والمالية العامة ضحية المنطقة الرمادية في الخلط بين احتياجات تغطية العجز المالي وضرورات تنويع وتنمية الناتج المحلي الإجمالي وخصوصا عندما نتحدث عن الأموال التي دخلت خزينة الدولة من خلال الدين العام «المحلي والدولي» الذي يناهز حاليا 5.4 مليارات دينار الى جانب الأصول السيادية للدولة (احتياطي الأجيال) المقدرة بتريليون دولار… فهذه الأموال يجب ان تستخدم في طرح المشاريع الانتاجية، وليس فقط بالمناقصات، وتنويع الاستثمارات وخلق فرص العمل بما يصب في تنويع وتنمية الناتج المحلي الإجمالي، فهذا هو الهدف الذي يعالج الجانب الأهم من اختلالات الاقتصاد الكويتي.
ملخص الأزمة
وربما يعتقد البعض ان اصلاح الاقتصاد الكويتي ومعالجة اختلالاته مسألة صعبة او حتى مستحيلة، لكن هذا يناقض العديد من تجارب الإصلاح والتحول والنمو العالمية التي واجهت تحديات معقدة كتفشي الأمية او الحرب الأهلية او ازمات الموارد والديون والنقد الأجنبي، ناهيك عن الانفجار السكاني كالهند او رواندا او سنغافورة او فيتنام او كوريا الجنوبية وغيرها، في حين ان ازمة الكويت ابسط مما سبق ذكره بكثير، فهي تتلخص في أزمة إدارة عامة لا تحسن تحويل الثروات الطبيعية والأصول المالية الضخمة الى منافع اقتصادية وخدمات مستدامة… وهنا يتخلص جانب كبيرة من أزمة الكويت واختلالات اقتصادها.