
لطالما ارتبط اسم شركات الأسهم الخاصة (Private Equity – PE) في الوعي الاقتصادي بصورة المستثمرين الجريئين الذين يدخلون الشركات بعنف مالي، يعيدون هيكلتها بخفض التكاليف وتحريك الأصول، ثم يبيعونها سريعاً بأرباح ضخمة.
لكن هذه الصورة التقليدية لم تعد تعكس الواقع الراهن.
فالعقدان الأخيران شهدا تحوّلاً جذرياً في فلسفة هذه الشركات، حيث لم يعد التركيز على “الصفقة” بقدر ما أصبح على “بناء الشركة” نفسها.
وقد أظهرت دراسات أكاديمية أن الشركات المملوكة لصناديق الأسهم الخاصة تحقق زيادة في الإنتاجية تتراوح بين 8 و12 بالمئة خلال أول عامين بعد الاستحواذ، مقارنة ب 2 إلى 4 بالمئة فقط في الشركات العامة.
ومن الحكمة الإشارة إلى أن هذه النتائج تستند إلى بيئات اقتصادية وتنظيمية متقدمة، وقد تختلف في البيئة الخليجية تبعاً لاختلاف البنية المؤسسية ومستوى النضج المالي والإطار التشريعي المحلي.
هذا التحول يؤكد أن صناديق الأسهم الخاصة لم تعد تبحث عن تحسينات مالية مؤقتة، بل عن تحسينات تشغيلية وهيكلية تعزز القيمة الحقيقية للأعمال على المدى الطويل.
التحول العالمي: من رأس المال إلى «رأس المال الذكي»
يشهد العالم اليوم عصر ما بعد السيولة، حيث لم يعد توفر الأموال وحده كافياً لتحقيق النمو.
القيمة الحقيقية أصبحت في كيفية توجيه رأس المال نحو القطاعات الواعدة، مثل التقنية، والطاقة المتجددة، والرعاية الصحية، والخدمات اللوجستية.
وهنا تبرز مكانة شركات الأسهم الخاصة، التي تمتلك فرقاً تشغيلية وخبرات متخصصة قادرة على تحويل الشركات المتعثرة إلى قصص نجاح عالمية.
تُقدّر قيمة الأصول المدارة لدى شركات الأسهم الخاصة عالمياً بأكثر من 8 تريليونات دولار، ومن المتوقع أن تتجاوز 10 تريليونات خلال السنوات المقبلة.
هذه القوة المالية تجعلها أحد المحركات الرئيسة لإعادة تشكيل سلاسل التوريد والأسواق والابتكار التكنولوجي حول العالم.
التحول الاستثماري
تتمتع دولة الكويت ببيئة مالية متقدمة، ونظام مصرفي قوي، وصناديق سيادية ذات خبرة عالمية، وهي مقومات تجعلها مؤهلة لاستضافة صناديق الأسهم الخاصة (PE Funds) وتشجيعها على الاستثمار في السوق المحلي.
ومع تزايد اهتمام هذه الصناديق بالدخول إلى الأسواق الخليجية، تبرز الكويت كوجهة مميزة لما تتمتع به من استقرار مالي وتشريعي، وقطاع خاص نشط، وطلب متزايد على تمويل التوسع في الشركات الصغيرة والمتوسطة.
إن استضافة هذه الصناديق والعمل معها عبر شراكات محلية يمكن أن تفتح آفاقاً جديدة لتطوير الاقتصاد الكويتي من الداخل، من خلال:
1. الاستثمار في الشركات العائلية لإعادة هيكلتها وتوسيع عملياتها إقليمياً.
2. تمويل مشاريع التكنولوجيا والابتكار لخلق قطاعات إنتاجية جديدة.
3. الدخول في شراكات بقطاعَي الصحة والتعليم لتحسين الجودة ورفع الكفاءة التشغيلية.
4. تمويل مشروعات الطاقة المتجددة والبنية التحتية بما يسهم في استدامة النمو وتنويع مصادر الدخل.
5. توسيع الاستثمارات في الصناعات النفطية التحويلية الجديدة، مثل البتروكيماويات المتقدمة ومشروعات القيمة المضافة في مجال الطاقة، لتطوير سلاسل إنتاج وطنية وتحقيق أقصى استفادة اقتصادية من الموارد الطبيعية.
6. تمكين وتفعيل دور المبادرين في المشروعات الصغيرة والمتوسطة عبر دعم مالي مشترك بين صناديق الاستثمار والمستثمرين المحليين، ومنحهم دوراً فعّالاً في الاقتصاد الوطني يتيح لهم خلق جيل مبادر يتمتع بمهارات مهنية عالمية، قادر على قيادة التحول الاقتصادي القادم.
هذه الخطوات لا تقتصر على استقطاب رأس المال فحسب، بل تُحدث نقلة نوعية في المعرفة والخبرة الإدارية والتقنية داخل الاقتصاد المحلي، مما يعزز من تنافسية الشركات الكويتية في الأسواق الإقليمية والعالمية.
آلية الاستقطاب
لتحقيق هذه الرؤية، تحتاج الكويت إلى نهج عملي متكامل يجمع بين التحفيز التشريعي والشراكة المؤسسية والشفافية التشغيلية، وذلك من خلال:
1. توفير بيئة استثمارية مرنة تتيح لصناديق الأسهم الخاصة الدخول في شراكات مع القطاعين العام والخاص ضمن أطر واضحة تحمي المستثمر وتضمن التوازن في توزيع المخاطر والعوائد.
2. تأسيس منصات تمويل مشتركة بين الصناديق السيادية الكويتية (هيئة الاستثمار، المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، الصندوق الكويتي للتنمية) والمستثمرين الأجانب، لتمويل المشاريع الاستراتيجية والمبادرات الصناعية الجديدة.
3. تعزيز الشفافية والإفصاح المالي لتسهيل عمليات التقييم والدخول والخروج من الاستثمارات وفق المعايير الدولية.
4. إطلاق برامج تحفيزية للمشروعات الوطنية التي تتماشى مع أهداف التنمية الاقتصادية المستدامة، ومنح الأفضلية للمشروعات ذات القيمة المضافة العالية محلياً.
5. تفعيل دور الجهات التنظيمية والمصرفية لتسهيل إجراءات الترخيص وتدفقات رأس المال، بما يخلق ثقة أكبر لدى المستثمرين العالميين.
ومن الأهمية بمكان دعوة الشركات الاستثمارية العالمية الحالية والمستقبلية الموجودة تحت مظلة هيئة تشجيع الاستثمار المباشر (KDIPA) وصناديق الاستثمار الخاصة (PE Funds)، التي تستثمر فيها الصناديق السيادية، مثل هيئة الاستثمار، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، والصندوق الكويتي للتنمية، إلى جانب شركات الاستثمار المحلية، لدعم شراكات التمويل والتشغيل في الاقتصاد الكويتي.
فهذه الدعوة تمثّل خطوة عملية نحو توحيد الجهود الوطنية والدولية لتطوير بيئة الأعمال وتعزيز كفاءة الاستثمار المنتج داخل الدولة.
إن هذا النهج يجعل من الكويت بيئة استثمارية جاذبة ومستقرة لصناديق الأسهم الخاصة، ويحوّلها من مجرد سوق مالي إلى شريك اقتصادي نشط في إدارة واستثمار رأس المال الذكي، بما يعزز النمو ويزيد من تنافسية الاقتصاد الوطني.
تمكين الكفاءات الوطنية
وجود صناديق الاستثمار المباشر في الكويت سيمكّن الكفاءات الوطنية الشابة من الانخراط في بيئة عمل عالمية، ويمنحهم فرصة لاكتساب خبرات تشغيلية واستثمارية متقدمة.
إن هذه المرحلة تمثّل فرصة تاريخية لتأهيل جيل جديد من القادة الاقتصاديين الكويتيين القادرين على قيادة التحول نحو اقتصاد متنوع ومستدام.
فالشركات الاستثمارية لا تُسهم فقط في تعزيز القدرات المالية، بل في بناء اقتصاد حقيقي قائم على الابتكار والإنتاجية، بدلاً من الاعتماد على العائدات التقليدية.
وبذلك يصبح استقطاب صناديق الأسهم الخاصة ليس مجرد خطوة مالية، بل رافعة استراتيجية لتطوير الاقتصاد الكويتي، وتنمية القطاع الخاص، وتحفيز بيئة ريادة الأعمال الوطنية.
كفاءة واستدامة
إن التحول الذي تشهده صناعة الأسهم الخاصة عالمياً يمثل فرصة مثالية للكويت لإعادة صياغة دورها الاقتصادي.
فمن خلال جذب صناديق الاستثمار المباشر وتوطينها، يمكن للكويت أن تنقل اقتصادها من مرحلة الاعتماد على العوائد المالية إلى مرحلة بناء القيمة المحلية المستدامة عبر الشراكة، والإدارة الذكية، وتنمية الكفاءات الوطنية.
بهذا النهج، تتحول الكويت إلى منصة استثمارية قادرة على خلق فرص عمل نوعية، وتحفيز النمو الداخلي، وتعزيز مكانتها الاقتصادية على المدى الطويل.
* مالك عيسى العجيل مستشار اقتصادي
