من تحت أنقاض غزة المحاصرة إلى جبال نابلس والخليل، تتكرر المأساة الفلسطينية بصيغ متعددة، لكن جوهرها واحد، هو دم يراق، وبيوت تُحرق، وحياة تُحاصر بين مستوطنين متطرفين وجنود، في ظل صمت دولي مريب يشرعن الألم ويطيل أمد الكارثة.
ورغم مرور أسابيع على إعلان وقف النار، لايزال القطاع يعيش تحت نيران وحصار جيش الاحتلال، حيث أعلنت وزارة الصحة اليوم السبت، عن 10 شهداء و6 إصابات جديدة، بينهم تسعة انتُشلوا من تحت الأنقاض، لترتفع حصيلة العدوان منذ «حرب الإبادة» في 7 أكتوبر 2023 إلى 69169 شهيداً ونحو 170 ألف مصاب، معظمهم من النساء والأطفال.
كما تسلمت الجهات الفلسطينية، 15 جثماناً لشهداء ضمن اتفاق تبادل الجثامين، لكن الصور كشفت آثار عمليات جراحية غامضة على الأجساد.
وقال الناطق باسم الأدلة الجنائية في غزة محمود عاشور، إن هناك «مؤشرات على العبث بالجثامين»، فيما وصف مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، ما جرى بأنه «انتهاك صارخ لحرمة الشهداء».
في المقابل، أكد جيش الاحتلال أنه تعرف على جثة الأسير الإسرائيلي ليؤور رودايف، مضيفاً أن خمس جثامين أخرى مازالت لدى حركة «حماس»، في انتظار بدء المرحلة الثانية من اتفاق التبادل.
لكن في الميدان، لا أثر لهدنة حقيقية؛ إذ شنت الطائرات الإسرائيلية غارات على خان يونس وغزة فجر اليوم السبت، تزامناً مع قصف مدفعي مكثف، ما جعل الهدوء الموقت، مجرد فاصل بين جولة وأخرى.
العطش والظلام
في غزة، أصبح الماء والكهرباء من أحلام الحياة البسيطة، حيث دمّر انقطاع التيار منذ أسابيع، ومنع الوقود، منظومة المياه والتحلية، وباتت الطاقة الشمسية الخيار الوحيد، لكنها باهظة الثمن ونادرة.
ويقول أحد سكان حي الزيتون «نحمل الدلاء إلى مسافات بعيدة لنملأها ونغليها للشرب، ولم نرَ الكهرباء منذ أيام، حيث تقدّر احتياجات القطاع بنحو 550 ميغاواط يومياً، بينما لا يتوافر سوى 20 في المئة منها».
وحذرت وكالة «اليونيسف»من «مرحلة موت عطش»مع توقف نحو 60 في المئة من منشآت المياه والصرف الصحي، في ظل غياب الإمدادات والقطع البديلة.
المستوطنون يحرقون والجيش يعتقل
وفي الضفة، امتدت الاعتداءات«الوحشية بوتيرة متصاعدة، ففي بلدة بيتا جنوب نابلس، أصيب ستة مسعفين وصحافيين في هجوم نفذه مستوطنون على المشاركين في فعالية لقطف الزيتون في منطقة جبل قماص».
وذكرت بلدية بيتا أنه من بين المصابين، الصحافيون رنين صوافطة، محمد الأطرش، ولؤي سعيد، حيث نقل بعضهم إلى المستشفى بعد إصابتهم بالحجارة والضرب المبرح.
في موازاة ذلك، نفذت قوات الاحتلال حملات دهم واعتقالات في مناطق متعددة، منها كوبر ويعبد وصانور ودورا، حيث اعتُقل مواطنون وتعرض آخرون للضرب والتنكيل.
وفي رام الله، أضرم مستوطنون النار في منزل فلسطيني بخربة أبوفلاح، بينما أطلقت قوات الاحتلال الرصاص لتفريق الأهالي الذين حاولوا إخماد الحريق، ما أدى إلى تدمير أجزاء من المنزل ومحتوياته.
وفي شرق القدس، يعيش نحو 150 فلسطينياً في تجمع خلة السدرة البدوي وسط تضييق مستمر ومحاولات تهجير قسري.
تفتقر المنطقة إلى الماء والكهرباء والطرق، وتتعرض لاقتحامات متكررة من المستوطنين وقوات الاحتلال.
ويقول المشرف العام لمنظمة «البيدر» الحقوقية حسن مليحات، إن «ما يجري في خلة السدرة استهداف سياسي وليس أمنياً، فالتجمع يقع داخل مخطط استيطاني ضخم (المشروع الاستيطاني E1)، الذي يهدف إلى ربط مستوطنة معاليه أدوميم بشرق القدس المحتلة وغور الأردن، وفصل شمال الضفة عن جنوبها».
وأكد أن الاحتلال يسعى لخلق «ظروف معيشية طاردة» لإجبار الأهالي على الرحيل، من خلال مصادرة الخيام والبركسات، ومنع البناء، والاعتداء على الرعاة، وقطع المياه. ورغم كل ذلك، يصر السكان على البقاء، معتبرين أرضهم «هوية وكرامة لا تُساوم».
مشهد فلسطيني واحد
بين الحصار في غزة والنار في الضفة، تمتد المعاناة بخيوطها القاسية لتنسج لوحة واحدة من الألم والصمود.
في الجنوب، أطفال يبحثون عن وجبة وجرعة ماء. وفي الشمال، مزارعون يقاومون المستوطنين لحماية زيتونهم.
وفي القدس وضواحيها، بلدية عنصرية صهيونية تعمل على هدم المنازل، بينما يُلاحق المستوطنون والجنود، البدو الذين يواجهون التهجير دفاعاً عن آخر ما تبقّى من أرضيهم.
… هكذا تبدو فلسطين اليوم – من البحر إلى النهر – جسداً واحداً يُضرب في مواضع مختلفة، لكن قلبه لايزال ينبض بالثبات رغم كل شيء.


