ترتكب إسرائيل مجازر شبه يومية ضدّ النازحين الفلسطينيين داخل قطاع غزة وبالتحديد داخل «المنطقة الآمنة» التي حدّدها جيش الاحتلال في نطاق 35 كيلومتراً مربعاً، أي أقلّ من 10 في المئة من مساحة القطاع، حيث تدفع 2.5 مليون فلسطيني للعيش في خيام ومدارس وأوضاع صحية وغذائية معدومة.
وآخِر هذه المجازر قَصْفُ مدرسة مصطفى حافظ غرب غزة حيث دمّرت طابقين يتواجد فيهما مهجّرون من الأطفال والنساء وذلك كوسيلةٍ يتبعها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لفرْض شروط الاستسلام على المقاومة الفلسطينية.
وتغطي أميركا الآلاف من هذه الجرائم الإسرائيلية منذ بداية الحرب وتتغاضي عنها وتدعم نتنياهو من دون كلل.
ويقول وزير الخارجية انتوني بلينكن إن «إسرائيل وافقت على المقترح وبقي جواب حماس»، وهو ما أكده أيضاً الرئيس جو بايدن.
وما لم يقُلْه الرجلان إن إسرائيل وافقتْ على مقترحها هي المعدَّل بشكل متواصل بشروطٍ مستجدة ورفضت الاقتراح «الإسرائيلي» الذي كان بايدن قد طرحه ووافقتْ عليه «حماس».
وها هو نتنياهو يقدّم شروطاً تعجيزية إضافية لا يمكن للمقاومة أن تقبل بها، لأن رئيس الوزراء لا يريد وقف الحرب ولا الانسحاب من غزة، بل يريد استعادة الأسرى الإسرائيليين ليستكمل الأعمال القتالية بعد عملية التبادل.
ومن خلال المجازر المتكررة ورفْض إسرائيل وقف مذابحها وتمتُّعها بعدم المحاسبة من المجتمع الدولي، يواجه المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري الشرق أوسطي تحدّياً جديداً في أعقابِ التفجير الانتحاري الذي وَقَعَ أخيراً في تل أبيب والذي أعلنتْ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» مسؤوليتهما عنه في شكل مشترك.
ويعود هذا الهجوم إلى التكتيكات التي استخدمها القائد الحمساوي يحيى عياش المعروف باسم «المهندس».
وكان عياش شخصية فلسطينية بارزة في المقاومة خَبِر صناعة القنابل التي أحدثت دماراً هائلاً في إسرائيل قبل ان تغتاله عام 1996 بهاتف مفخّخ.
ومع عودة هذا الأسلوب الذي لم تَعُد تستخدمه المقاومة منذ عام 2005 فإنه من المتوقع أن تصبح العواقب عميقةً على أمن إسرائيل ومستقبلها خصوصاً ان تفجيرات عياش كان لها تأثير عميق على إسرائيل التي شهدت شوارعها عدم استقرار وغياب للأمن.
وهذا ما أجبر الحكومة الإسرائيلية على الاستماع للمظالم الفلسطينية لمدة معيّنة من الزمن.
وقد ساهمت تفجيرات «المهندس» في تقويض حزب العمل بقيادة إسحاق رابين ومن بعده شمعون بيريز اللذين لم يجدا مفراً من الترويج لعملية السلام واتفاق أوسلو ( 1993 – 1995)، ما أضعف مكانتهما السياسية في ظل مجتمع إسرائيلي متطرف.
وقد اغتيل رابين عام 1995 على يد متطرف يهودي مُعارِض لعملية السلام ما أدى إلى صعود اليمين السياسي مثل بنيامين نتنياهو الرافض لأي عملية سلام مع الفلسطينيين ولاتفاق أوسلو، وفوزه عام 1996 برئاسة الوزراء ليبدأ نهجا يركّز على الأمن وعدم التصالح مع الفلسطينيين.
وأصبح عياش رمزَ البطولة للعديد من الفلسطينيين خصوصاً مَن خاب أملهم بموتِ اتفاق أوسلو الذي كان يفترض أن يعطي دولةً للفلسطينيين عام 1999.
وهذا ما أدى إلى تعاظم شعبية حماس وجناحها العسكري «عز الدين القسام» على حساب «الاعتدال» الذي مثّلته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.
وقد تَسبّب استمرار بناء المستوطنات المستحدثة على أراض فلسطينية وانعدام الالتزام الإسرائيلي بعملية السلام بانقسامٍ فلسطيني داخلي خصوصاً في ظل قضم إسرائيل المزيد من الأراضي الفلسطينية وتصلب المواقف السياسية الإسرائيلية وسياسة الفصل العنصري وقتْل المتظاهرين وهدْم المنازل والتنكيل اليومي بالفلسطينيين والاعتقال الإداري المتعسّف.
وأصبح المجتمع الإسرائيلي أكثر تطرفاً، ما دفع نتنياهو إلى تسجيل انتصار واضح داخل الكنيست بـ 68 صوتاً أيّدوا منْع قيام دولة فلسطينية مستقبلية.
وهذا ما أغلق فعلياً البابَ ولأمدٍ طويلٍ أمام التعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين، خصوصاً بعد دعوة وزير الأمن المتطرف إيتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريش إلى احتلال الضفة الغربية بكاملها، ووزير التراث عميحاي إلياهو، إلى ضرب غزة بالسلاح النووي.
وهذه الآراء ليست هامشية. فهي تتّفق مع نتنياهو الذي يؤيد الحزب الذي يرأسه، السيطرة الكاملة على «يهودا والسامرة» (الضفة) وهي – في رأيهم – جزء لا يتجزأ من التراث التوراتي الإسرائيلي الذي يَعتبر الفلسطينيين تهديداً وجودياً للأمن القومي.
أما نتائج العودة إلى العمل الانتحاري، فلها تداعيات اقتصادية ولا سيما إذا ضُرب مركز التكنولوجيا وهو أحد الاقتصادات الأكثر تطوراً في الشرق الأوسط، وكذلك المركز السياحي والاستثمار الأجنبي.
وهذا ما سيولد تدابير أمنية جديدة وتشديد الرقابة وتكثيف الوجود العسكري في المناطق الحضرية، ما يعرقل النشاط الاقتصادي ويرهق موارد الكيان الإسرائيلي.
ويضيف الاستخدامُ المتجدد للهجمات الانتحارية، عنصراً يرتكز على عدم القدرة على التنبؤ بمجريات الصراع خصوصاً أن هذه العمليات تثير اهتماماً دولياً لِما تمثّله من تحدٍّ للأجهزة الأمنية ولِما يمكن أن تحمله إلى العالم. وتهدف المقاومة الفلسطينية لإحياء إرث عياش لتشكيل موقف جديد يتردد صداه ليس فقط في العالم بل داخل المجتمع الفلسطيني بقوة ويحشد الدعم للمقاومة خصوصاً في صفوف أولئك الذين لا يرون أي طريق آخَر لمواجهة الإيديولوجية الصهيونية وما بلغتْه من تطرف وسهولة الترويج للإبادة الجَماعية للفلسطينيين.
وتوجّه المقاومة الفلسطينية رسالةً بأنها مستعدة لإحياء ما جمدته عام 2005 بإدخال تحوّلٍ جديد ما دامت خسرت كل شيء ولم تعد تخشى أكثر مما يحصل للشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وتدنيس للأقصى، وما دامت إسرائيل وصلت إلى حد التصلب والتطرف الذي لم يبلغ هذا المستوى من قبل.
ولذلك أطلقت المقاومة مساراً جديداً إستراتيجياً، وهو مسار العمليات الانتحارية التي تؤثر على النفسية الإسرائيلية وتزرع الخوف وعدم اليقين الذي يضاف لِما أوجده يوم السابع من أكتوبر من حالِ اللا يقين، إلى جانب العمليات العسكرية على حدود لبنان التي أذاقت الشعبَ الإسرائيلي طعْم التهجير والهرب إلى أماكن أكثر أمناً.
وذهب هؤلاء إلى مناطق الوسط وخصوصاً إلى تل أبيب التي ضربها الانتحاريّ الفلسطيني. فإذا استمرّت هذه العمليات، ينعدم الأمن كلياً من قلب العاصمة الاقتصادية والملاذ الآمن للصهاينة، مثلما أوجدتْ إسرائيل حال انعدام الأمن للفلسطينيين.
وهكذا يتجه الطرفان نحو التصعيد أملاً في أن يصل إلى ذروته ليفرض حلاً دائماً بعيداً عن المراوغة والخداع الذي برع فيه المسؤولون الإسرائيليون طوال عقود لاحتلال كل فلسطين وطرد شعبها من أرضه.