القانون هو المنظم الأساسي للعلاقات في المجتمع، والبوصلة التي توجه مسارات الأفراد والجماعات نحو الأمن والنظام.
وراء كل قانون تقف غايات نبيلة، فمنه ما يكافح الجريمة ويحرس الأمن، ومنه ما يحمي حقوق الأفراد ويصون حرياتهم. لكن أحياناً، تتعارض هذه الغايات، فيظهر التصادم بين مصالح متضاربة. ومع ذلك، يجب أن يكون هذا التعارض مكمّلاً لا مدمّراً، يعمل في إطار الخط التشريعي للدولة، ليحد كل قانون من الآخر، محققاً توازناً يثري النظام والمجتمع.
كما أن قوانين مكافحة الفساد المالي، هي سيف العدل الذي يحمي المجتمع من آفة الطمع واستغلال السُّلطة، مثل باقي القوانين الجزائية، تتربص بالفاسدين، وتحاسبهم على تجاوزاتهم، ورغم أنها تبدو في بعض الأحيان على خلاف مع المبادئ الدستورية وحقوق الإنسان، فإن هذا الخلاف يجب أن يكون محكوماً بالتكامل، لا بالتنازع، حتى لا يطغى على روح القانون ويشوِّه صورته العادلة.
صفة «المعرض سياسياً» ترتبط بالشخص وأقربائه إلى الدرجة الثانية حتى بعد تركه المنصب أو وفاته
فالجرائم الدولية وجرائم الفساد لا تكتفي بإخفاء أسرارها في الظل، بل تمتد في دهاليز السُّلطة والنفوذ، مما يجعل القوانين الخاصة بها معقدة وصعبة التطبيق. فهي لا تكتفي بالعقاب، بل تسعى للوقاية، لمنع الجريمة قبل وقوعها، وكشف الخفايا مهما طال الزمن. ومع تعقيد هذه القوانين، يصبح من الضروري أن تكون سهلة التطبيق وغير مرهقة للدولة والأفراد، إذ إن تعقيدها غالباً ما يقف حجر عثرة أمام تطبيقها بالشكل الأمثل.
وفي خضم هذا التعقيد، يبرز القانون رقم 106 لسنة 2013 بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ولائحته التنفيذية، حيث يصطدم بتحدي التعامل مع الأشخاص المعرضين سياسياً. يحمل هؤلاء الأشخاص، بسبب طبيعة مناصبهم العامة، عبء كونهم ذوي مخاطر عالية، فلربما يستغلون سُلطاتهم لتحقيق مكاسب شخصية، مما يضعهم تحت مجهر قوانين مكافحة الفساد وغسل الأموال، إلا أن الشمول العشوائي لكل مَنْ يرتبط بهم، اجتماعياً أو مهنياً، يثير الجدل، خصوصاً إذا امتدت هذه الشبهة إلى مدى الحياة وإلى ما لا نهاية، مما يتعارض مع أصل البراءة ومبدأ شخصية العقوبة ومع نصوص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966، والذي انضمت له الكويت، ثم أصبح قانوناً نافذاً بموجب المرسوم الأميري رقم 23 لسنة 1996.
يتطلب التعامل مع الأشخاص المعرضين سياسياً رؤية متوازنة تميز بين أصحاب النزاهة الذين يحافظون على شرف الوظيفة التي يتقلدونها، وبين مَنْ ينتهكون القانون باستغلال النفوذ، فلابد من وجود حدود واضحة تمنع تحويل القوانين إلى أدوات للتضييق غير المبرر، والذي ينتج عنه -حتماً- استحالة تطبيقها في معظم الأحيان. ومن ثم نحن أمام ضرورة تدعو إلى مراجعة القوانين لتكون أكثر مرونة وتوافقاً مع المعايير الدولية، وتسهم في تقليل التعقيدات والإجراءات غير الضرورية، وتجعلها أكثر عدلاً وإنصافاً تجاه الأفراد.
الضرورة تدعو لمراجعة القوانين لتكون أكثر مرونة وتوافقاً مع المعايير الدولية
كما أن هناك حاجة مُلحَّة لتحديد مدة زمنية لصفة «المعرض سياسياً»، بدلاً من بقائها مفتوحة، كما هو الحال في الكويت، حيث ترتبط الصفة بالشخص وأقربائه للدرجة الثانية، حتى بعد تركه المنصب أو وفاته. على العكس من ذلك، تحدد معظم الدول فترات زمنية تتراوح بين عام إلى خمسة أعوام، كحد أقصى، للانتفاء التام لصفة التعرض السياسي. ففي الولايات المتحدة الأميركية وكندا يُعد الشخص معرضاً سياسياً حتى خمس سنوات بعد تركه المنصب، وفي أستراليا سنة ونصف السنة، فيما بمعظم دول الاتحاد الأوروبي تبقى هذه الصفة لمدة عام واحد.
وفي رأينا، إن تحديد مدة من الزمن، حتى لو تجاوزت خمس سنوات لبقاء صفة المعرض سياسياً، أمر يتوافق مع غايات التشريع، ولا يتعارض مع الحقوق والحريات الفردية، بعكس بقاء هذه الصفة إلى الأبد، بالمخالفة للمنطق السليم وغايات التشريع، بما يجعل هذا الإجراء أشبه بعقوبة أبدية، ومن ثم يكون عُرضة للطعن عليه بعدم الدستورية، استناداً لعدة نصوص، أبرزها المواد 30 و32 و33 من الدستور الكويتي، فضلاً عن مبادئ حقوق الإنسان، وعلى وجه التحديد أحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
يبقى النقاش مفتوحاً حول أبدية صفة التعرض السياسي للشخص وأقاربه، وكيف يتعارض ذلك مع حقوق الإنسان وأصل البراءة، وحتى الحق في النسيان، إذ إن قوانين الجزاء تعترف بالتقادم، ونحن هنا لا نطالب بتقادم الجرائم والعقوبات المرتبطة بالفساد المالي أو غسل الأموال، بل بانتفاء صفة التعرض السياسي بعد فترة زمنية معقولة.
قد يُثار تساؤل حول ما نشاهده في عالم اليوم من اكتشاف جرائم فساد مالي رهيبة بعد مدة طويلة من الزمن، مما يجعل هناك حاجة لبقاء صفة المعرض سياسياً لمدة زمنية طويلة أو للأبد، وهذا أمر مردود عليه من وجهين، أولهما أن الممارسات الدولية ربطتها بمدة تصل في كثير من الدول إلى خمس سنوات، باعتبارها مدة كافية كإجراء احترازي مرتبط بإخفاء آثار الجريمة، إن كانت تمَّت أثناء تولي المنصب بسبب طبيعة الجرائم المالية وطبيعة متوليها من أصحاب النفوذ ذوي المخاطر العالية.
تحديد مدة من الزمن حتى لو تجاوزت خمس سنوات لبقاء صفة المعرض سياسياً أمر يتوافق مع غايات التشريع ولا يتعارض مع الحقوق والحريات الفردية
أما الوجه الآخر للرد على هذا التساؤل، فيتمثل في أن جرائم الفساد المالي لا تسقط بالتقادم، ومن ثم فإن صفة المعرض سياسياً لن تؤثر على مكافحة هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها مهما طال الزمن.
ومن ثم، فإن المطلوب هو ضرورة العمل على تقوية أجهزة مكافحة جرائم الفساد المالي وأجهزة إنفاذ القانون وأجهزة تطبيق العدالة في مواجهة تلك الجرائم ومرتكبيها، وليس الإجراء الاحترازي ذاته الذي يجب أن يكون مؤقتاً، حتى لا ننجر إلى الشك في جميع المعرضين سياسياً وأسرهم للأبد، فيتحول هذا الإجراء إلى عقوبة تخالف الدستور ومبادئ حقوق الإنسان.
وبالتالي، فإن إعادة النظر في مدة بقاء صفة المعرض سياسياً ليست فقط ضرورة لتحقيق التوازن بين حماية النظام المالي وضمان حقوق الأفراد، بل هي خطوة نحو بناء نظام قانوني أكثر كفاءة ومرونة، يسهم في تحقيق العدالة والإنصاف، ويحمي الحقوق دون إفراط أو تفريط. فالهدف الأسمى للقانون هو أن يكون سياجاً يحمي المجتمع، ويحفظ أمنه، ويضمن في الوقت ذاته حقوق الأفراد وحرياتهم، ليكون التشريع أداة فاعلة تسهم في بناء مجتمع عادل ومتوازن، يعلو فيه صوت الحق والعدالة والإنسانية.